Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - PL  - PT ]

كلمة قداسة البابا فرنسيس

إلى الكوريا الرومانية

بمناسبة عيد الميلاد

الجمعة 21 ديسمبر / كانون الأول 2018

[Multimedia]


 

"قد تَناهى اللَّيلُ واقتَرَبَ اليَوم. فْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور" (روم 13، 12).

 

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

نلتقي مرّة جديدة هذا العام، وقد غمرنا الفرح والرجاء اللذان يشعّان من وجه الطفل الإلهيّ، كي نتبادل تهاني عيد الميلاد حاملين في قلبنا جميع هموم وأفراح العالم والكنيسة.

أتوجّه بأمنياتي القلبيّة في عيد الميلاد المجيد لكم، ولمعاونيكم، ولجميع الأشخاص الذين يخدمون في الكوريا، وللسفراء البابويّين، ولمعاوني السفارات البابويّة. وأودّ أن أشكركم على تفانيكم اليوميّ في خدمة الكرسي الرسولي، والكنيسة وخليفة بطرس. شكرًا جزيلًا!

اسمحوا لي أن أقدّم أيضًا ترحيبًا حارًّا لنائب أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان، مونسنيور إدغار بينيا بارّا، الذي بدأ خدمته، الدقيقة والمهمّة، يوم 15 أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي. إن مجيئه من فينيزويلا يعكس عالمية الكنيسة كما وضرورة فتح الآفاق أيضًا وأيضًا حتى أقاصي الأرض. أهلًا وسهلًا بك صاحب النيافة العزيز، وأتمنّى لك خدمة مثمرة!

عيد الميلاد هو العيد الذي يملأنا بالفرح ويعطينا اليقين بأنّه ما من خطيئة بإمكانها أن تفوق عظمة رحمة الله، ولا يمكن لأيّ فعل إنساني أن يمنع فجر النور الإلهيّ من أن يولَد، ويولَد من جديد في قلوب الناس. إنه العيد الذي يدعونا لتجديد الالتزام الإنجيلي بإعلان المسيح، مخلِّص الكون ونور العالم. لأنه إذا كان المسيح، "القُدُّوس، البَريء، النَقِيّ" (را. عب 7، 26)، لم يعرف الخطيئة (را. 2 قور 5، 21)، وجاء فقط كفّارةً عن خطايا الناس (را. عب 2، 17)، فالكنيسة، التي تضمّ خطأة داخلها، ولذا فهي مقدّسة ونقيّة وفي الوقت نفسه بحاجة دومًا إلى التنقية، تتقدّم باستمرار في درب التكفير والتجديد. والكنيسة "تواصل طريقها ما بين اضطهادات العالم وتعزيات الله" -بين اضطهادات الروح الدنيوي وتعزيات روح الله-، "مبشّرةً بآلام الربّ وموته إلى أن يأتي (1 قور 11، 26). إنمّا تتقوّى بقوّة الرّب النّاهض من الموت، لكي تتغلّب بالصبر والمحبّة على مضايقها ومصاعبها التي من الدّاخل ومن الخارج، وتكشف للعالم بكلّ أمانة، سرَّ الرّب الذي لن ينفكّ يغشاه الظلّ إلى أن يتجلّى في النهاية في وضح النّور" (الدستور العقائدي في الكنيسة نور الأمم، عدد 8).

لذلك، وبناءً على الاقتناع الوطيد بأن النور هو دومًا أقوى من الظلام، أودّ أن أتأمّل معكم حول النور الذي يربط عيد الميلاد -أي المجيء الأول للربّ بالتواضع- بعودة المسيح -المجيء الثاني بالمجد- ويثبّتنا على الرجاء الذي لا يخيّب أبداً. ذاك الرجاء الذي تعتمد عليه حياة كلّ واحد منّا وكلّ تاريخ الكنيسة والعالم. الكنيسة بدون رجاء تكون قبيحة!

وُلِدَ يسوع، في الواقع، في وضعٍ اجتماعيّ-سياسيّ ودينيّ مفعم بالتوتّرات والاضطرابات والظلام. وميلادُه، المُنتَظَر من جهة والمرفوض من جهة أخرى، يُلَخِّص المنطقَ الإلهيّ الذي لا يتوقّف أمام الشرّ، لا بل إنه يحوّله بشكل جذريّ وتدريجيّ إلى خير، والمنطقَ الشرّير أيضًا الذي يحوّل حتى الخير إلى شرّ ليجعل البشريّة تعيش في اليأس والظلمة: "النُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات" (يو 1، 5).

إن عيد الميلاد يذكرّنا كلّ عام بأن خلاص الله، الذي يُمنَح مجّانًا للبشريّة بأسرها، وللكنيسة، وخاصّة لنا نحن المكرّسين، لا يكون فعّالًا بدون إرادتنا، ودون تعاوننا، ودون حرّيتنا، ودون جهدنا اليوميّ. فالخلاص هو هبة، هذا صحيح، لكنّه هبة يجب قبولها والمحافظة عليها وجعلها تثمر (را. متى 25، 14- 30). أن نكون مسيحيّين بشكل عام، وأن نكون نحن بشكل خاص، قد مُسِحنا من قِبَلِ الربّ وكُرِّسنا له، لا يعني أن نتصرّف كشريحة من الأشخاصِ المتميّزين الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الله، ولكن كأشخاص يعرفون أنهم مَحبوبون من قِبَلِ الربّ على الرغم من كوننا خطأة وغير مُستَحقّين. إن المكرّسين في الواقع، ليسوا سوى خَدَم في كرم الربّ، عليهم أن يسلّموا، في الوقت المناسب، الحصادَ والعوائد إلى سيّد الكرم (را. متى 20، 1- 16).

يبيّن لنا الكتاب المقدّس وتاريخ الكنيسة، أن المختارين أنفسهم، في مرّات عديدة، أثناء مسيرتهم، يبدؤون بالتفكير وبالاعتقاد وبالتصرّف كسادة للخلاص، وليس كأشخاص ينالون الخلاص؛ كرقباء على أسرار الله، وليس كموزّعين متواضعين لهذه الأسرار؛ كموظّفين جمرك على الله، وليس كخدم للقطيع الموكل إليهم.

وبدلاً من السير خلف الله، نقف أمامه مرّات عديدة –بسبب حماسة مفرطة أو مضلّلة-، مثل بطرس الذي انتقد المعلّم واستحقّ أشدّ لوم وجّهه المسيح إلى شخص ما: "إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" (مر 8، 33).

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

هذا العام عاشَ قاربُ الكنيسة في عالمٍ مضطّرب، بعضَ الأوقات الصعبة، وضربته العواصف والأعاصير. وقد سأل الكثيرون السيّد، الذي يبدو وكأنه ينام: "يا مُعَلِّم، أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟" (مر 4، 38)؛ وآخرون، قد فاجأتهم الأخبار، فأخذوا يفقدون الثقة بالكنيسة ويتخلّوا عنها؛ وحاول البعض الآخر، بسبب الخوف، أو المصالح، أو دوافع خفيّة، أن يجرحوا جسدها فزادوا جراحها. وآخرون لا يخفون فرحتهم في رؤيتها وتتألم؛ غير أن كثيرين آخرين ما زالوا يتشبّثون باليقين بأنه "لَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت" (متى 16، 18).

وفي الوقت عينه تواصلُ "عروس المسيح" حجّها على الأرض بين البهجة والمعاناة، بين النجاحات والصعوبات، الخارجيّة والداخليّة. ومن المؤكّد أن الصعوبات الداخليّة هي دومًا الأكثر ألمًا والأكثر تدميرًا.

المعاناة:

هناك الكثير من المعاناة: كم من المهاجرين -الذين أُجبِروا على مغادرة أوطانهم والمخاطرة بحياتهم- يلقون حتفهم، أو يبقون على قيد الحياة ولكنّهم يجدون الأبوابَ مغلقة وإخوانهم في الإنسانية منشغلين بالإنجازات السياسيّة وبالسلطة. كم من الخوف والأحكام المُسبقة. كم مِن الناس ومِن الأطفال يموتون كلّ يوم بسبب نقص المياه والغذاء والدواء! كم مِن الفقر والبؤس! كم مِن العنف ضدّ الضعفاء وضدّ النساء! كم مِن سيناريوهات الحروب المُعلَنة وغير المُعلَنة! كم مِن الدماء البريئة تُسفك كلّ يوم! كم من انعدام الإنسانية والوحشيّة يحيطان بنا من كلّ جانب! كم من الأشخاص الذين يتعرّضون حتى اليوم للتعذيب المنهجيّ في مراكز الشرطة والسجون ومخيّمات اللاجئين في مناطق مختلفة من العالم!

إننا نحيا، في الواقع، حقبة جديدة من "الشهداء". يبدو أن الاضطهاد القاسي والوحشي للإمبراطوريّة الرومانيّة لم يغرب بعد. يولَد باستمرار "نيرون" جُدُد لقمع المؤمنين، فقط بسبب إيمانهم بالمسيح. وتتكاثر الجماعات الجديدة المتطرّفة، التي تُستَهدَف الكنائس وأماكن العبادة والخدّام والمؤمنين البسطاء. جماعات جديدة وقديمة، وزُمَر، تعيش وهي تتغذّى من الكراهية والعداء تجاه المسيح والكنيسة والمؤمنين. كم من المسيحيّين ما زالوا يعيشون اليوم تحت وطأة الاضطهاد والتهميش والتمييز والظلم في أجزاء كثيرة من العالم. لكنّهم يواصلون معانقة الموت بشجاعة كي لا ينكروا المسيح. وكم هو صعب اليوم عيش الإيمان بحرّية في أجزاء كثيرة من العالم حيث تنقص الحرّية الدينيّة وحرّية الضمير!

ومن جهة أخرى، إن نماذج الشهداء البطولية والعديد من السامريّين الصالحين، أي الشبيبة والأسر والحركات الخيريّة والتطوّعية، وكثير من المؤمنين والمكرّسين، لا يُنسِينا على أيّة حال الشهادة السيّئة والفضائح التي يسبّبها بعض أبناء الكنيسة وخدّامها.

سأقتصر هنا فقط على آفَتَي الاعتداءات وعدم الأمانة.

إن الكنيسة ملتزمة جدّيًا منذ سنوات عديدة بالقضاء على شرّ الاعتداءات، الذي بلغ صراخه أذني الربّ، أذني الله الذي لا ينسى أبدًا المعاناة التي عاشها الكثير من القاصرين بسبب رجال الدين والأشخاص المكرّسين: إساءة استخدام السلطة، وانتهاك الضمير، والاعتداء الجنسيّ.

عادت إلى ذهني، فيما كنت أفكّر في هذا الموضوع المؤلم، شخصيّة داود -"ممسوح الربّ" (را. 1 صم 16، 13 – 2 صم 11- 12). هو، الذي من نَسَبِه ينحدر الطفل الإلهي -"ابن داود"- على الرغم من كونه مختارًا، وملكًا وممسوحًا من قِبَلِ الربّ، قد ارتكب خطيئة ثلاثيّة، أي ثلاثة انتهاكات خطيرة معًا: "التعدِّ الجنسيّ، وسوء استخدام السلطة، وانتهاك الضمير". ثلاثة اعتداءات متميّزة، لكنّها تتقارب وتتداخل.

تبدأ القصّة، كما نعلم، عندما بقي الملك في بيته يتسكّع، مع أنه خبير في الحرب، بدلا من أن يذهب وسط شعب الله في المعركة. لقد استغل داود كونَه "الملك"، من أجل مصلحته كي يرتاح، (إساءة استخدام السلطة!). وبدأ ممسوح الله، إذ استسلم للراحة، في تدهورٍ أخلاقيّ وضميريّ. وفي هذا السياق بالذات رأى، مِن شرفة القصر، بَتْشابَع امرَأَة أوريا الحثّي وهي تستحمّ وشَعَرَ بانجذابٍ نحوها (را. 2 صم 11)، وأرسل في طلبها فضاجَعَها (إساءة استخدام للسلطة مرّة ثانية، إضافة إلى الاعتداء الجنسي!). وهكذا اعتدى على امرأة متزوّجة ووحيدة، ولتغطية خطيئته، دعا أوريا للعودة إلى بيته وحاول إقناعه عبثًا بقضاء الليل مع امرأته. ثمّ أمر قائد جيشه بأن يعرّض أوريا للموت الأكيد في المعركة (إساءة استخدام للسلطة مرّة جديدة، إضافة إلى انتهاك الضمير!). فاتّسعت سلسلة الخطيئة مثل وصمة الزيت وأصبحت سريعا شبكة من الفساد. بدأ كل شيء عندما بقي في بيته يتسكّع.

من شرارة الكسل والشهوة، ومن "تخفيض اليقظة"، بدأت سلسلة شيطانيّة من الخطايا الخطيرة: الزنا والكذب والقتل. انطلاقًا من ظنّه أنه يمكنه أن يفعل كلّ شيء، وأن يحصل على كلّ شيء، لكونه الملك، حاول داود أيضًا أن يخدع زوج بَتْشابَع، والناس، ونفسه، وحتى الله. أهمل الملك علاقته بالله، وخالف الوصايا الإلهيّة، وجرح نزاهته الأدبية، دون أن يشعر حتى بالذنب. واستمر الممسوح بممارسة مهمّته كما لو أن شيئًا لم يحدث. الأمر الوحيد الذي كان يهمّه هو حماية صورته ومظهره. "لأن من لا يَشعر بأنّه قد خالف جدّيًا شريعة الله، قد ينجرف في نوع من الضياع أو السبات. وبما أنّهم لا يجدون شيئًا خطيرًا يلومون أنفسهم عليه، لا يشعرون بذاك الفتور الذي يستولي شيئا فشيئا على حياتهم الروحيّة وينتهي بهم الأمر للهلاك والفساد" (الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا، عدد 164). ومِن خطأة، ينتهي بهم الأمر إلى فاسدين.

يوجد اليوم أيضًا "ممسوحون من قِبَلِ الربّ" كثيرون يستغلّون الضعفاء، منتهزين قوّتهم الأخلاقيّة وقدرتهم على الإقناع. يمارسون الرجاسات ويواصلون ممارسة خدمتهم كما لو أن شيئًا لم يحدث؛ لا يخافون الله أو دينونته، لكنهم يخشون فقط أن يتمّ اكتشافهم وكشف امرهم. خدام يمزّقون جسد الكنيسة، فيتسبّبوا في العثرات ويزرعوا الشكّ في رسالة الكنيسة الخلاصيّة وفي تضحيات العديد من إخوتهم.

حتى اليوم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، كثير من أمثال "داود" يسقطون، دون تردّد، في شبكة الفساد، يخونون الله، ووصاياه، ودعوتهم، والكنيسة، وشعب الله، وثقة الصغار، وثقة أسرهم. وغالبًا ما يخبئون بلا خجل وراء لطفهم الكبير، وعملهم الهائل، ووجههم الملائكي، ذئبًا فظيعًا مستعدّ لابتلاع أرواحًا بريئة.

إن خطايا وجرائم الأشخاص المكرّسين تتلوّن بألوان أكثر قتامة من الخيانة والعار، وتشوّه وجه الكنيسة، فتقوّض مصداقيتها. والكنيسة في الواقع، مع أبنائها المؤمنين، هي أيضًا ضحيّة هذه الخيانة وما يمكن أن يطلق عليه حقًا "جريمة غدر".

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

ليكن من الواضح أنه إزاء هذه الفظائع، لن تَعفي الكنيسة نفسَها من القيام بكلّ ما هو ضروريّ لتسليم أيّ شخص ارتكب مثل هذه الجرائم إلى العدالة. لن تحاول الكنيسة أبدًا تغطية أيّة قضيّة أو التقليل من شأنها. ولا يمكننا أن ننكر أن بعض المسؤولين، في الماضي، عن استخفاف، وعن عدم تصديق، وعدم جاهزية، وعدم خبرة -يجب أن نحكم على الماضي بمقياس الماضي وبتفسيره-، أو عن سطحيّة روحيّة وبشريّة، لم يعالجوا بالجدّية المطلوبة والسرعة الضروريّة، العديدَ من الحالات. لن يتكرّر هذا الأمر أبدًا. هذا هو خيار الكنيسة كلّها وقرارها.

ستكرّر الكنيسة، في شهر فبراير/شباط القادم، التأكيد على إرادتها الثابتة بالاستمرار، بكلّ قوتها، في طريق التطهير. سوف تتساءل الكنيسة، مستفيدة أيضًا من الخبراء، عن كيفيّة حماية الأطفال؛ وكيفيّة تجنّب مثل هذه الكوارث، وكيفيّة معالجة الضحايا وإعادة دمجهم؛ عن كيفيّة تعزيز التنشئة في المعاهد الدينية والإكليريكيات... سنحاول أن نحوّل الأخطاء التي ارتُكِبَت إلى فرص للقضاء على هذه الآفة، ليس فقط في جسد الكنيسة ولكن أيضًا في جسد المجتمع. في الواقع، إذا كانت هذه الأفة الخطيرة قد ضربت بعض الخدمة المكرّسين، فإننا نتساءل: إلى أيّ قدر هي متفشية في مجتمعاتنا وعائلاتنا؟ لذلك، فلن تقتصر الكنيسة على الاعتناء بنفسها بل ستحاول مواجهة هذا الشرّ الذي يسبّب الموت البطيء للعديد من الناس، على المستوى الأخلاقي والنفسي والإنساني.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

إذ نتحدّث عن هذه الآفة، يثور البعضُ، داخل الكنيسة، على العاملين في وسائل الاتّصال، متّهما إيّاهم بتجاهل الغالبيّة العظمى من حالات الاعتداءات، التي لم يرتكبها رجال الدين الكنيسيّين –تتحدّث الإحصاءات عن أكثر من 95%-، ويتّهمهم بأنهم يريدون عمدًا إعطاء صورة زائفة، كما لو أن هذا الشرّ قد ضرب الكنيسة الكاثوليكيّة فقط. لكنّي أودّ أن أشكر بحرارة هؤلاء العاملين في وسائل الإعلام الذين اتسموا بالصدق والموضوعية، والذين حاولوا كشف هذه الذئاب ومنح الصوت للضحايا. حتى لو كان الامر يتعلق بحالة واحدة فقط من الاعتداء -وهي بالفعل تمثّل فظاعة بحدّ ذاتها- فإن الكنيسة تطالب بعدم السكوت وبتسليط الضوء عليها بشكل موضوعيّ، لأن أكبر فضيحة في هذا الشأن هي تغطية الحقيقة.

نذكر جميعًا أن داود قد أدرك خطورةَ خطيئته فقط بفضل لقائه مع النبيّ ناثان. إننا نحتاج اليوم إلى "ناثان" جُدُد يساعدون الكثير من أمثال داود على الاستيقاظ من حياة منافقة وخدِاعة. من فضلكم، لنساعد الكنيسة الأمّ المقدّسة في مهمّتها الصعبة، أي التعرّف على الحالات الحقيقيّة، والتمييز بين القضايا الحقيقيّة والقضايا الزائفة، وبين الاتّهامات والتشهير، وبين الحقد والتلميحات، وبين الشائعات والتشويه. إنها مهمّة صعبة للغاية لأن الجناة الحقيقيّين يعرفون كيف يخفون أنفسهم بدهاء لدرجة أن العديد من الزوجات، والأمّهات، والأخوات، يفشلون في اكتشاف الأمر في أقرب الناس: الأزواج، والعرّابين، والأجداد، والأعمام، والأشقّاء، والأقرباء، والمعلّمين ... إلخ. بل وأن الضحايا أنفسهم، الذين يتمّ اختيارهم بشكل جيّد من قبل مفترسيهم، هم غالبًا ما يفضّلون الصمت، بل ويصبحون، تحت هول الخوف، عرضة للخجل والخوف من أن يتمّ التخلّي عنهم.

أودّ أن أقول إلى المتحرّشين جنسيًّا بالأطفال: توبوا وسلّموا أنفسكم إلى العدالة البشريّة، وحضّروا أنفسكم للعدالة الإلهيّة، وتذكّروا كلمات المسيح: "أَمَّا الذي يَكونُ حجَرَ عَثرَةٍ لأَحدِ هؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنينَ بي فَأَولى بِه أَن تُعلَّقَ الرَّحى في عُنُقِه ويُلقى في عُرْضِ البَحْر. الوَيلُ لِلعالَمِ مِن أَسبابِ العَثَرات! ولابُدَّ مِن وجُودِها، ولكِنِ الوَيلُ لِلَّذي يكونُ حَجَرَ عَثرَة!" (متى 18، 6- 7).

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

اسمحوا لي الآن أن أتكلّم أيضًا عن ألم أخر، أي عن غدر أولئك الذين يخونون رسالتهم، وقسمهم، ورسالتهم، وتكريسهم لله وللكنيسة؛ أولئك الذين يختبئون وراء النوايا الطيّبة للإساءة إلى إخوانهم وزرع الخلاف والانقسام والحيرة؛ أشخاص يجدون دائما التبريرات، حتى المنطقيّة منها وحتى الروحيّة، من أجل الاستمرار بالمضيّ، دون عائق، في طريق الهلاك.

ليس هذا بجديدٍ في تاريخ الكنيسة. يقول القدّيس أوغسطينوس، في حديثه عن القمح والزؤان: "قد تعتقدون ربما، يا إخوتي، أنه ليس باستطاعة الزؤان أن يبلغ إلى الكرسي الأسقفي؟ تعتقدون ربما أنه موجود فقط في الطبقات الدنيا وليس في الطبقات العليا؟ لا تسمح يا ربّ بأن نكون زؤانا! ... هناك القمح أيضًا على الكرسي الأسقفيّ وهناك الزؤان. وبين جماعات المؤمنين المختلفة هناك القمح وهناك الزؤان" (عظة 73، 4: الآباء اللاتين 38، 472).

تحثّنا كلمات القدّيس أوغسطينوس هذه على أن نتذكر المثلَ الحكيم: "طريق الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة". وهي كلمات تساعدنا على الفهم أن المُجرِّب، المُتَّهِم الأكبر، هو الذي يُقسّم، ويَزرع الفتنة، ويدسّ العداوة، ويغوي الأبناء ويقودهم إلى الشكّ.

في الواقع، في الحقيقة، خلف زارعي الفتن هؤلاء، يوجد دومًا "ثلاثون عملة من الفضّة". إن شخصية داود هنا تقودنا إلى يهوذا الإسخريوطي. رجل آخر مختار من الربّ، يبع سيّده ويسلمه إلى الموت. في الكنيسة سيوجد دومًا داودُ الخاطئ ويهوذا الإسخريوطي، لما يمثّلانه من الضعف الذي هو جزء من إنسانيّتنا. هما رمز للخطايا وللجرائم التي يرتكبها الأشخاص المختارون والمكرّسون. يتشابهان في جسامة الخطيئة، لكنهما يتميّزان في التوبة. داودُ تاب، وسلّم نفسه إلى رحمه الله، بينما يهوذا انتحر.

علينا كلّنا بالتالي –كي نجعل نور المسيح يشعّ- واجب مكافحة كلّ فساد روحي، الذي هو "أسوأ من سقوط الخاطئ، لأنه عمى مريح ومكتفي ذاتيّا، حيث يبدو كلّ شيء في النهاية شرعيّا: الخداع، والافتراء، والأنانيّة، والعديد من أشكال خفيّة من المرجعيّة-الذاتية، لأن "الشَّيطانُ نَفْسُه يَتَزَيَّا بِزِيِّ مَلاكِ النُّور" (2 قور 11، 14). هكذا أنهى أيّامه سليمان، في حين أن داود الخاطئ العظيم عرف كيف يتغلّب على بؤسه" (الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا، عدد 165).

الأفراح:

لننتقل إلى الأفراح. لقد كانت عديدة هذا العام: على سبيل المثال، نجاح السينودس المخصّص للشبيبة، الذي تكلّم عنه عميد الكرادلة. والخطوات المتّخذة حتى الآن في إصلاح الكوريا. يتساءل الكثيرون: متى ستنتهي؟ لن تنتهي أبداً، لكنها تسير بخطوات جيّدة. وأعمال التوضيح والشفافيّة في الشؤون الاقتصاديّة؛ والجهود المحمودة التي بذلها مكتب المدقّق العام وهيئة المعلومات الماليّة؛ والنتائج الجيّدة التي حقّقتها المؤسّسة لأجل الأعمال الدينيّة (IOR)؛ والقانون الجديد لدولة حاضرة الفاتيكان؛ والمرسوم بشأن العمل في الفاتيكان؛ والكثير من الإنجازات الأخرى الأقلّ ظهورًا؛ نذكر، من بين الأفراح، الطوباويّين والقدّيسين الجدد الذين هم "الأحجار الكريمة" التي تزيّن وجه الكنيسة وتشعّ الرجاءَ والإيمانَ والنورَ في العالم. من الواجب أن نذكر هنا شهداء الجزائر التسعة عشر: "تسعة عشر حياة أُعطِيت للمسيح، من أجل إنجيله والشعب الجزائري ... نماذج للقداسة العامة، قداسة الباب المجاور" (توماس جورجون، "علامة للأخوّة"، أوسيرفاتوري رومانو، 8 ديسمبر/كانون الأول 2018، ص. 6)؛ والعدد الكبير من المؤمنين الذين بقبولهم سرّ المعموديّة، يجدّدون كلّ عام شبابَ الكنيسة كأمّ خصِبة؛ الأبناء الكثيرون الذين يعودون إلى "البيت" ويعانقون الإيمان والحياة المسيحيّة؛ العائلات والآباء الذين يعيشون الإيمانَ بجدّية وينقلونه يوميّا لأبنائهم، عبر فرحِ حبّهم (را. الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحبّ، عدد 259- 290)؛ شهادة العديد من الشبّان الذين يختارون بشجاعة الحياة المكرّسة والكهنوت.

وهناك أيضا من أسباب الفرح الحقّ العدد الكبير من الأشخاص المكرّسين والمكرّسات، والأساقفة والكهنة، الذين يعيشون حياتهم اليوميّة بأمانة، وصمت، وقداسة، ونكران للذات. إنهم أشخاص ينيرون ظلام الإنسانية بشهادتهم للإيمان والمحبّة والمودّة. أشخاص يعملون بصبر، محبّةً بالمسيح وبإنجيله، من أجل الفقراء والمظلومين والأخيرين، دون محاولة الظهور على الصفحات الأولى في الصحف أو دون اعتلاء المراكز الأولى. أشخاصٌ، إذ تركوا كلّ شيء ووهبوا حياتهم للرب، يحملون نورَ الإيمان حيث تُرِكَ المسيحُ عطشانًا، وجائعًا، ومسجونًا وعريانًا (را. متى 25، 31- 46). أفكّر بشكل خاص في كهنة الرعايا الكثيرين الذين يقدّمون اليوم مثالًا صالحًا لشعب الله، كهنة قريبون من الأسر، ويعرفون أسماء الجميع ويعيشون حياتهم في بساطة، وإيمان، وحماس، وقداسة، ومحبّة. أشخاص منسيّون من الإعلام لكن بدونهم تسود الظلمة.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

عندما كنت أتحدّث عن النور، وعن المصاعب، وعن داود ويهوذا، أردت أن أسلّط الضوء على قيمة الإدراك الذي يجب أن يتحوّل إلى واجب يقظة ورعاية من قِبَلَ أولئك الذين، في هيكليّات الحياة الكنسية والحياة المكرّسة، يمارسون خدمة القيادة. في الواقع، إن قوّة أيّ مؤسّسة لا تكمن في كونها مؤلّفة من رجال مثاليّين (هذا مستحيل) ولكن في عزمها على تنقية نفسها باستمرار؛ وفي قدرتها على الاعتراف بتواضع بالأخطاء وبتصحيحها؛ وفي قدرتها على النهوض من السقوط؛ وفي رؤية نور عيد الميلاد الذي يبدأ من المذود في بيت لحم، ويَعبُر التاريخ ويَبلغُ إلى مجيء المخلّص بالمجد.

من الضروريّ بالتالي أن نفتح قلوبنا للنور الحقيقي، يسوع المسيح: النور الذي يستطيع أن ينير الحياة ويحوّل ظلمتنا إلى نور؛ نور الخير الذي يتغلّب على الشرّ؛ نور الحبّ الذي يتغلّب على الكراهية؛ نور الحياة التي تهزم الموت؛ النور الإلهي الذي يحوّل كلّ شيء وكلّ شخص إلى نور. نور إلهنا: الفقير والغنيّ، الرحيم والعادل، الحاضر والخفيّ، الصغير والكبير.

لنتذكّر كلمات القدّيس مكاريوس الكبير الرائعة، أب الصحراء المصريّة في القرن الرابع، الذي، بحديثه عن عيد الميلاد يؤكّد: "صار الله صغيرًا! هو الذي لا يمكن بلوغه، هو غير المخلوق، قد اتّخذ جسدًا، بصلاحه اللامتناهي وغير المعقول، وصار صغيرًا. بصلاحه نزل من مجده. لا يمكن لأحد في السماء وعلى الأرض أن يفهم عظمة الله، ولا يمكن لأحد في السماء وعلى الأرض أن يفهم كيف يجعل الله نفسه فقيرًا وصغيرًا من أجل الفقراء والصغار. وكما أن عظمته هي غير مفهومة، كذلك هو صغره" (را. عظات IV، 9- 10؛ XXXII، 7: من "روح ونار. العظات الروحية. الموسوعة II"، كيبايون-بوزي، مانيانو 1995، ص. 88- 89. 332- 333).

لنتذكّر أن عيد الميلاد هو عيد "الله العظيم الذي صار صغيرًا وفي صغره لم يكف عن كونه عظيمًا. وفي هذا الجدال، العظيم هو الصغير: رقّة الله. تلك الكلمة التي يحاول الروح الدنيويّ أن ينزعها من المعجم: كلمة رقّة. الله العظيم الذي صار صغيرًا والذي يستمرّ في تواضعه. (را. عظة في بيت القديسة مارتا، 14 ديسمبر/كانون الأول 2017؛ را. عظة 25 أبريل/نيسان 2013).

يقدّم عيد الميلاد كلّ عام اليقينَ أن نور الله يستمرّ بالتألّق على الرغم من بؤسنا البشري؛ واليقينَ أن الكنيسة سوف تخرج من هذه المحن، أكثر جمالًا، ورائعة ونقيّة. لأن جميع الخطايا، والشرّ والسقطات التي ارتكبها بعض أعضاء الكنيسة لا يمكن أبدًا أن تطغى على جمال وجهها، لا بل إنها تعطي حتى بعض الأدلّة عن أن قوّتها ليست فينا، إنما في المسيح يسوع، مخلّص العالم ونور الكون، الذي يحبّها، ووَهَبَ حياته من أجلها، عروسه. يقدّم عيدُ الميلاد دليلًا على أن الشرور الكبيرة التي ارتكبها البعض لن تحجب كلّ الخير الذي تصنعه الكنيسة مجّانًا في العالم. يقدّم عيد الميلاد اليقينَ بأن القوّة الحقيقيّة للكنيسة ولعَمَلِنا اليوميّ، وغالبًا ما يكون خفيًّا –مثل عمل الكوريا، حيث يوجد قدّيسون-، تكمن في الروح القدس الذي يقودها ويحميها عبر القرون، ويحوّل حتى الذنوب إلى فرص مغفرة، والسقطات إلى فرص تجديد، والشرّ إلى فرص تنقية وانتصار.

شكرًا جزيلًا وعيد ميلاد سعيد للجميع!

]يمنح البركة [

أودّ هذا العام أيضًا أن أترك لكم هديّة. إنه كتاب كلاسيكي: خلاصة اللاهوت النسكيّ والصوفيّ (تانكيري)، لكن في الطبعة الأخيرة التي أعدّها الأسقف ليبانوري، الأسقف المساعد لروما، والأب فورلاي، الأب الروحي لإكليريكيّة روما. أعتقد أنّه جيّد. لا تقرأوه من البداية إلى النهاية، لكن ابحثوا عن فضيلة ما، أو موقف ما، أو أمر ما في الفهرس ... سوف يفيدنا، في إصلاح كلّ واحد منّا، وإصلاح الكنيسة. هو لكم!

 

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018

 



Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana